الذكاء الاصطناعي.. شريك موثوق للتعليم أم غش يهدد النزاهة الأكاديمية؟

الذكاء الاصطناعي.. شريك موثوق للتعليم أم غش يهدد النزاهة الأكاديمية؟



 محمود خضر الشبول

استخدمت رزان العمايرة - وهي طالبة جامعية- الذكاء الاصطناعي "مرّة واحدة" في امتحان "صعب" كما وصفته، بعد أن أرسلت سؤالها إلى تطبيق المحادثة الذي أعاد إليها الإجابة "بلغة قريبة من أسلوبي الشخصي"، وفق قولها. 

ولا تعتقد رزان أن "الدكاترة يلاحظون ما إذا كانت الإجابة صادرة عن الذكاء الاصطناعي، لأن الطالب يكتبها بطريقته، لكن كثيرا من الطلاب رَسَبُوا عندما ضبطوا في الامتحان" لعدم وجود آلية واضحة لكشف استخدام الذكاء الاصطناعي في جامعتها، لكنها تستخدم بعض الأدوات لمساعدتها في حل واجباتها، حسب قولها.

هذه الواقعة ليست استثناءً، بل جزء من ظاهرة تتسع في أروقة الجامعات الأردنية، حيث تتداخل أدوات الذكاء الاصطناعي مع المسارات الأكاديمية للطلبة، وتطرح سؤالًا جوهريًا: هل صارت هذه الأدوات وسيلة للتعلّم، أم مدخلًا جديدًا للغش الأكاديمي؟

في استراحاتهم بين المحاضرات، في المقاهي وحتى في نزهاتهم، لم يعد الواجب البيتي أو الـquize (الامتحان القصير) يؤرق كثيرا من الطلبة الذين اتخذوا من تطبيقات الذكاء الاصطناعي سهلة الاستخدام، رفيقا لهم في رحلتهم الجامعية دون أن يقلقهم مدى فهمهم واستيعابهم للمادة الجامعية. 


قضية تتسع وغياب للضوابط

يشهد الوسط الجامعي الأردني توسعًا سريعًا في استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، بدءًا من تلخيص المحاضرات وتحليل البيانات، مرورًا بكتابة الأبحاث، وصولًا إلى الإجابة عن أسئلة الامتحانات، لكن هذا الانتشار يحدث في ظل غياب إطار تنظيمي موحد يحدد الخط الفاصل بين الاستخدام المشروع والآخر المخالف. 

وتعتمد جامعات عدة على تقدير أعضاء هيئة التدريس في الحكم على الأعمال المقدمة، وتتسع الفجوة بين اجتهادات الجامعات وتصورات الطلبة، ما يجعل العلاقة بين التقنية والتعليم علاقة مضطربة وغير مستقرة.

لمى الشعور- طالبة جامعية في السنة الثانية- حاولت إنجاز واجبٍ جامعي بدا لها معقدًا، فلجأت إلى أحد تطبيقات الذكاء الاصطناعي ليساعدها على ترتيب الأفكار وكتابة المقابلة المطلوبة، واستخدمت الإجابات التي حصلت عليها كمنطلق، ثم أعادت صياغتها بطريقتها الخاصة، لكن زملاء لها لم يفعلوا الشيء نفسه- حسب قولها- فيما رصد النظام الإلكتروني المستخدم في جامعتها تشابهًا تجاوز 30 % مع نصوص مولَّدة من أدوات الذكاء الاصطناعي، فكانت النتيجة "صفرًا" في التقييم.

شهادتا الطالبتين تختصران مشهدًا جامعيًا متحوّلًا؛ بين من يرى في الذكاء الاصطناعي وسيلة للتطوير، وآخرين يستخدمونه بوصفه طريقًا مختصرًا للإنجاز، وتلك القصص تفتح بابًا واسعًا أمام تساؤل محوري: هل أصبح الذكاء الاصطناعي وسيلة للتعلم.. أم طريقًا للغش الأكاديمي؟


تطور أم غش؟

يرى الأستاذ الدكتور مروان بطيحة، نائب رئيس جامعة الحسين بن طلال، أن الظاهرة تتطلب تنظيمًا لا عقابًا، موضحًا أن الجامعة لا تمتلك حتى الآن تعليمات مستقلة تضبط استخدام الذكاء الاصطناعي في التعليم والبحث العلمي، لكنها تعتمد على قواعد النزاهة الأكاديمية العامة. 

ويضيف بطيحة إن الجامعة تعمل على إعداد تعليمات جديدة تراعي التطورات التقنية وتحدد بوضوح ضوابط الاستخدام المسؤول، مبينًا أن العقوبات تتدرج من الإنذار إلى الفصل تبعًا لجسامة المخالفة، مع ضمان حق الطالب في الدفاع عن نفسه.

من جانبه، يؤكد الأستاذ  الدكتور أحمد الخصاونة، الأكاديمي في كلية تكنولوجيا المعلومات في الجامعة الهاشمية، أن استخدام الطلبة لأدوات الذكاء الاصطناعي لم يعد يُصنف غشًّا بالمعنى التقليدي، بل يمثل تطورًا طبيعيًا في أساليب التعلّم الحديثة. 

ويشير إلى أن نحو 70 % من الطلبة باتوا يستخدمون هذه الأدوات في إعداد تقاريرهم وأبحاثهم، موضحًا أن المشكلة ليست في التقنية بحد ذاتها، بل في "غياب التفكير النقدي والاعتماد على النقل دون تحليل".

ويرى الخصاونة أن المرحلة المقبلة تتطلب دمج الذكاء الاصطناعي في المناهج الجامعية بوعي ومسؤولية، مع تطوير أدوات تقييم تقيس الفهم والإبداع، لا الحفظ والصياغة اللغوية، وتحويل دور الأستاذ من ناقل للمعرفة إلى موجهٍ لعملية تعلم تفاعلية قائمة على التحليل والنقد.


تشجيع منظم لا حظر

من جهته، يؤكد الناطق الإعلامي باسم وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، مهند الخطيب، أن مجلس التعليم العالي يشجع الجامعات على توظيف الجوانب الإيجابية في الذكاء الاصطناعي بما يخدم العملية التعليمية وينمي مهارات الطلبة، ضمن ضوابط تضعها الجامعات ومجالس الحاكمية داخلها لضبط العملية التعليمية للحد من الغش الذي قد يحدث.

وفي إطار دعم هذه الرؤية، أعلنت الوزارة عن تعاون مع شركة  "Google" يتيح لطلبة الجامعات الأردنية استخدام النسخة المدفوعة من "NotbookLM ,Gemini" مجانًا لمدة عام، لتطوير قدراتهم البحثية والابتكارية ضمن مبادرة المجلس الوطني لتكنولوجيا المستقبل.


تحديات أخلاقية 

تواجه الجامعات تحديات متنامية في تمييز الجهد الحقيقي للطلبة، فبرامج الكشف عن المحتوى المولَّد بالذكاء الاصطناعي ليست دقيقة بما يكفي، وقد تُصدر أحكامًا خاطئة على نصوص بشرية.

وهذا ما أكدته دراسة  أكاديمية أجريت على أساتذة في الجامعة الأردنية، حيث أبدى أكثر من 70 % من المشاركين "مخاوف أخلاقية" بشأن استخدام الطلبة لهذه الأدوات، خصوصا مع غياب التأهيل للأكاديميين حول آليات كشف استخدام الطلبة لهذه الأدوات. 

في المقابل، يتفنن بعض الطلبة في إعادة الصياغة أو استخدام أدوات من خلال خاصية تحويل النص إلى أسلوب "بشري" لتجاوز الرقابة، ما يجعل مهمة الأساتذة أكثر تعقيدًا.

هذا الواقع يدفع بعض الجامعات إلى ضرورة تبني أنماط تقييم بديلة تعتمد على المشاريع التطبيقية، والعروض التفاعلية، والامتحانات الشفوية، في محاولة لقياس المهارات التحليلية والفكرية، لا مجرد إتقان الصياغة أو استخدام التقنية. 

ويتجاوز النقاش حدود الغش إلى قضايا العدالة الأكاديمية، فإمكانية وصول بعض الطلبة إلى أدوات مدفوعة أو أكثر تطورًا تمنحهم تفوقًا تقنيًا على زملائهم، ربما يخلق فجوة في تكافؤ الفرص التعليمية داخل القاعات الجامعية.

وأشارت الدراسة، التي نشرتها الجامعة الأردنية، إلى أن الاستخدام الموجه للذكاء الاصطناعي يمكن أن يعزز التحصيل الدراسي والابتكار، لكنه يبقى مرتبطا بالتحديات مثل الاعتماد المفرط، وضعف جاهزية المعلمين، والبنية التحتية الرقمية.

ويتوجب على الجامعات الأردنية اليوم، التوجه إلى مرحلة جديدة من التفكير في علاقتها بالذكاء الاصطناعي؛ فالحظر الكامل لم يعد ممكنًا، والاستخدام المفتوح بلا ضوابط يهدد نزاهة العملية الأكاديمية، وبين هذين الحدّين، تبرز الحاجة إلى تنظيم الاستخدام وتوعية الطلبة بأسس التعامل الأخلاقي مع الأدوات الذكية، وتدريب أعضاء هيئة التدريس على إدماجها بطرق تعزز الإبداع لا الاستسهال.

وفي هذا الصدد، أكدت الطالبة رزان لـ"الغد" أنها لم تتلق أي تدريب حول الاستخدام الأمثل والمسموح به للذكاء الاصطناعي في جامعتها خلال سنتين من الدراسة.

من جهتها، استحدثت الجامعة الهاشمية، بحسب ما أكده نائب رئيس الجامعة الدكتور عوني طرادات، إطارًا تشريعيًا وسياسة عامة واضحة لتنظيم استخدام الذكاء الاصطناعي في التعليم والبحث العلمي، وجاءت السياسة لضبط وتوجيه استخدام الأدوات التوليدية بما يضمن الاستفادة منها في التعليم والبحث، مع اتخاذ الاحتياطات اللازمة للاستخدام الأخلاقي من قبل الطلبة وأعضاء الهيئة التدريسية.

وحددت السياسة بدقة المجالات المسموح بها، مثل: توليد الأفكار العامة، وتلخيص النصوص، والوصول للمصادر، وتحسين الكتابة، وإدارة المراجع، فيما اعتبرت عدم الإفصاح عن استخدام الأداة شكلاً من أشكال الانتحال الأكاديمي تُطبَّق عليه لوائح الجامعة، مع اعتماد نماذج رسمية للإفصاح في الخطط ورسائل الماجستير والدكتوراه ومشاريع التخرج، وتحديد سقف مساهمة الذكاء الاصطناعي في الرسائل بحدّ أقصى 25 %.

ويشير الدكتور طرادات إلى أن الجامعة اعتمدت نهجًا حَوْكميًا متكاملًا لتنفيذ سياستها عبر لجان متخصصة، إلى جانب تبنّي تقييم الأثر الأخلاقي في الأبحاث التي تستخدم البيانات الشخصية، ووضع آليات إشراف ومساءلة وعقوبات واضحة للمخالفات. 

ويرى أن وجود هذه السياسة يمثّل "خطوة مهمة لكنها غير كافية وحدها"، في ظل التسارع التكنولوجي لنماذج الذكاء التوليدي، ما يستلزم تحديثًا دوريًا وتنسيقًا مع الإستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي؛ لضمان التوافق مع التشريعات الوطنية وحماية البيانات، إضافة إلى جهود مستمرة لبحث صياغة تعليمات وطنية موحّدة تنظم الاستخدام الأكاديمي للذكاء الاصطناعي في الجامعات الأردنية.

من جهتها، تواصلت "الغد" مع الجامعة الأردنية، لاستطلاع تجربتها لكنها لم تتلق ردا لغاية نشر هذا التقرير.


استشراف المستقبل 

مع غياب الإطار القانوني الشامل، تتجه الجامعات الأردنية تدريجيًا إلى صياغة سياسات محلية للاستخدام المسؤول، وتطوير المناهج لتشمل مهارات "الذكاء الاصطناعي التربوي".

لكن المشهد الأوسع يشير إلى تحول أعمق في فلسفة التعليم نفسها؛ من نموذج يقوم على التلقين والتقييم الورقي، إلى نموذج تفاعلي رقمي تُشارك فيه الأدوات الذكية كعنصر من عناصر التفكير والتحليل.

وفي ذلك، يبدو أن السؤال الحقيقي.. هل يُسمح باستخدام الذكاء الاصطناعي دون ضوابط؟ أم كيف نستخدمه دون أن نفقد المعنى الحقيقي للتعلّم؟

المصدر : جريدة الغد الاردنية

إرسال تعليق

أحدث أقدم